
لقاء المصالحة: حين فتح التيار الناصري جسراً إلى نظام ولد الطائع
تمثل المذكرات السياسية للقيادي الناصري، الخليل ولد الطيب، نافذة مهمة على مرحلة دقيقة من تاريخ موريتانيا، حيث تروي تفاصيل أول لقاء مباشر جمعه بالرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، في مسعىً جريء لفتح قنوات اتصال بين النظام الحاكم والتيار الناصري الذي كان يعاني من التهميش والإقصاء.
**التمهيد للقاء: بحثاً عن الوسيط المناسب**
لم تكن الرغبة في التقارب مع نظام ولد الطائع وليدة اللحظة، بل كانت نتيجة تطور في رؤية التيار الناصري نفسه. فبعد سنوات من المواجهة والملاحقة، أدرك التيار ضرورة "إيجاد حالة من التهدئة" تسمح له بإعادة بناء تنظيمه وفتح آفاق جديدة له. كما أيقن أن استمراره كـ "وقود للجهات وتباريات أخرى" لم يعد مجدياً.
بالتالي، تبنت الأمانة العامة للتيار وثيقة توجيهات كبرى دعت إلى فتح جسر مع النظام. وكان التحدي الأكبر هو كيفية الوصول إلى الرئيس مباشرة، متجاوزين الأجهزة الأمنية التقليدية التي قد تعرقل such مسعى.
انطلقت محاولات متعددة لإيجاد وسيط موثوق. اتصل التيار بالعقيد محمد محمود ولد الديه وبالتقيد جذور ولد حكي عبر أحمد ولد جدو. كما جرى التواصل مع الوزير محفوظ ولد لمرابط عبر شقيقه أبي ولد لمرابط، ومع العقيد مولاي ولد برخيص الذي نصح بالاتصال بالعلامة محمد سالم ولد عدود، وهو ما تم عبر ماه المبيين ولد الخليفة. حتى أن الخليل ولد الطيب نفسه اتصل بالوزير الشيخ محمد السالم ولد بوكه سعياً وراء "طريق مختصرة". إلا أن كل هذه المحاولات **باءت بالفشل**، ربما بسبب حذر الوسطاء من ربط علاقة علنية بتنظيم مازال موضع شك.
الفرصة الذهبية: مداخلة أسرت لب الرئيس
جاءت الفرصة المنتظرة خلال زيارة الرئيس ولد الطائع لواحتي لعصابة وكرو في عام 1987. في لقاء مع الأطراف والوجهاء في مقاطعة **كرو**، ألقى الخليل ولد الطيب مداخلة مركزة وجريئة، لفتت انتباه الرئيس بشكل كبير. وحسب رواية ولد الطيب، فقد قال في مداخلته:
* أن موريتانيا بحاجة إلى قائد يخرجها من المحاور السياسية والتبعية (مثل محور باريس-داكار).
* أن الرئيس معاوية ولد الطائع قادر على أن يكون "قائداً شعبياً" إذا استجاب لطموحات الشعب.
* أن التاريخ قد يضعه في مصاف قادة مثل **جمال عبد الناصر**، وباتريس لومومبا، وديجول.
هذه المداخلة "أعجبت الرئيس وأسالت لعابه"، كما نقل السياسي موسى فال (الذي كان ضمن الوفد الرئاسي) إلى أحد أفراد التيار، واصفاً إياها بـ "مداخلة جيدة قدمها الشاب الخليل ولد الطيب".
الطريق إلى القصر الرئاسي: عوائق وحلول**
بعد هذه المداخلة، تم الوعد للخليل بلقاء الرئيس في القصر. تواصل مع المختار ولد محمد موسى (مستشار بديوان الرئيس) لترتيب اللقاء، لكن الأخير طلب منه مقابل ذلك إجراء مقابلة تلفزيونية يمدح فيها سياسات النظام، وهو ما رفضه الخليل بشدة، متهماً المختار بالمماطلة وعدم الرغبة الحقيقية في إتمام اللقاء.
لم يستسلم التيار، فاتجه الخليل إلى طريقة أخرى عبر محمد السالك ولد احميده، الذي نصحه بالتواصل مع شقيقه الأصغر **عبد الرحمن ولد احميده**، بسبب علاقته المباشرة بأحمد ولد الطائع (شقيق الرئيس). التقى الخليل بعبد الرحمن، الذي تعامل بحذر وطلب "كلمة سر" تنظيمية ليؤكد جدية الطلب وشرعيته. بعد حصوله على هذه الموافقة، تعاون عبد الرحمن بشكل إيجابي، وتم تحديد موعد اللقاء.
#### **اللقاء التاريخي في 29 ديسمبر 1987**
في مساء ذلك اليوم، اصطحب عبد الرحمن ولد احميده الخليل ولد الطيب إلى منزل الرئيس داخل القصر الرئاسي. وصف الخليل الجو العام للقاء بـ "الحذر الشديد"، حيث كان من الصعب عليه الإفصاح مباشرة أنه يمثل "التنظيم الناصري". Instead، دار حديثه في "الحدود العامة"، مبرزاً أن تياره:
تيار ناشئ يؤمن بالعروبة والإسلام.
لا يتبع أي نظام خارجي، رغم تأثره بفكر جمال عبد الناصر.
مستعد لتأييد أي قائد عربي يخدم أمته.
يرحب بالإفراج عن معتقليه ويشيد بالتوجهات الوطنية للرئيس، خاصة خطابه المناهض للقبلية وتعزيزه لهيبة الدولة.
رد فعل الرئيس: اعتراف بناصرية واعدة**
رد الرئيس ولد الطائع بإيجابية واضحة، حيث كشف عن جانب شخصي مهم. قال إن تأثره الأكبر كان بالقائد **جمال عبد الناصر**، وروى أنه زار القاهرة عام 1972 وساءه تدهور الأوضاع فيها لدرجة أنه "أجهش بالبكاء". كما استذكر زيارة أخرى للبنان عام 1986، وروى قصة طريفه حدثت له على مائدة العشاء مع القائد الليبي عبد السلام جلود وأحمد ولد منبه، حيث نصح جلود بنقل رسالة للعقيد معمر القذافي بضرورة التوقف عن مهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية تحسباً لرد فعلها، وهو ما تحقق لاحقاً حسب زعمه.
في نهاية اللقاء، طلب الخليل من الرئيس أن يستقبل شخصيات ناصرية أخرى لتقديم صورة أوسع عن التيار، فكتب الرئيس بيده – كما يذكر الخليل "ببطء شديد" – ثلاثة أسماء: أحمد ولد مد الله، محمد الأمين ولد سيدي، وأحمد ولد جدو. استمر اللقاء نحو ساعتين، وودعه الرئيس بلطف، مبدياً ما بعد اللقاء: تداعيات ونتائج**
كان تقييم قيادة التنظيم الناصري للقاء "إيجابياً جداً". وبالفعل، استقبل الرئيس الأسماء الثلاثة المذكورة في غضون أسبوع واحد. من خلال هذه اللقاءات، استنتجت القيادة أن ولد الطائع "كان يسعى بوادٍ للانفتاح علينا دون أن يعبر عن ذلك صراحة".
كانت أهم ثمار هذا التقارب المبدئي هو تعيين أحد أبرز وجوه التيار، **أحمد ولد جدو ولد احليفة**، كاتبا للدولة مكلفاً بمحو الأمية، وذلك أثناء وجوده في مهمة رسمية في السودان. كان هذا التعيين – الذي لم يطلبه التيار صراحة – "أول دخول لشخصية ناصرية معروفة، وبطريقة راقية" إلى هياكل النظام، مما مثل سابقة مهمة وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التفاعل، وإن كان محدوداً، بين التيار الناصري ونظام الرئيس معاوية ولد الطائع..
صلوه انواكشوط



