محكمة الحسابات الجهة الوحيدة المختصة قانوناً بتحديد أخطاء التسيير، وقد خوّلها القانون اتخاذ عقوبات بحق من يثبت ارتكابه لهذه الأخطاء، من ردّ الأموال المختلسة إلى المنع من التسيير.
ومع ذلك، لم تعقد المحكمة، منذ تأسيسها قبل أكثر من ثلاثين سنة، جلسة واحدة تصدر فيها حكماً واحداً يتعلق بخطإ تسيير! واكتفت بدلاً من ذلك بإعداد تقارير تشخيصية تصف مظاهر الفساد، دون أن تترتب عنها عقوبات على المفسدين، وكأنها جهة رصدٍ ومتابعة، لا جهة قضاء ومساءلة.
كان الأولى بالمحكمة أن تمارس صلاحياتها، فتدين من من يثبت لديها سوء تسييره وتصدر في حقه العقوبات المقررة، وتحيل القضايا التي تجد فيها شبهات جنائية إلى النيابة العامة، وفقا لما ينص عليه القانون.
ذكر الدكتور إدريس حرمه ببانا ـ وهو من أبرز المختصين في القانون ـ أن المحكمة دأبت في كل مرة على مراسلة وزير العدل لإحالة الملفات التي ترى أنها تتضمن شبهات جنائية تستوجب المتابعة. فهل قامت المحكمة بذلك هذه المرة بشأن مليارات “صوملك” وغيرها من القضايا؟ وكيف تصرفت الحكومة إزاء ذلك؟
من جهة أخرى، باشرت المحكمة عمليات تفتيش لبعض القطاعات عن أنشطتها خلال الفترة الزمنية التي شملها التقرير (2022 – 2023)، غير أن هذه القطاعات لم تظهر نتائج تفتيشها في التقرير النهائي.
فما السبب؟ وهل في الأمر تمييز أو انتقائية في عرض النتائج؟
يلاحظ كذلك أن المحكمة تجنبت تحديد المسؤوليات الفردية في المؤسسات التي أثبت تقريرها وجود اختلالات فيها، بل إنه يمكن القول إنها ربما تعمدت التستر على بعض المسؤولين من خلال تغييب الوصف الدقيق لهوية من ردّ على ملاحظاتها.
فبعد أن كانت في تقاريرها السابقة تورد مثلاً “ردّ العمدة” أو “ردّ الأمين العام”، أصبحت تكتفي بعبارة “ردّ المسير”، دون تحديد من المقصود بها: أهو الوزير؟ أم الأمين العام؟ أم المدير العام؟
هذا الغموض في تحديد المسؤوليات يجعل من الصعب مساءلة الأشخاص المعنيين، ويفرغ التقرير من جزء كبير من قيمته الرقابية.
رغم كل هذه الملاحظات، فإن نشر التقرير يُعد مكسباً مهماً للشفافية، وخطوة في اتجاه تعزيز الرقابة الشعبية على المال العام، إذ يسهم في رفع وعي المواطنين ويمارس نوعاً من الردع المعنوي للمفسدين.
غير أن هذا لا يكفي.
فلا يمكن أن يبقى هدر 18 مليار أوقية في “صوملك” خلال عامين جريمةً بلا مجرمين!
إلى متى سيظل تقرير المحكمة يُقرأ من طرف من وُجّهت إليه الملاحظات وهو في منصب أعلى من ذاك الذي ارتكب فيه المخالفات؟
وكيف يكون شعور القاضي المفتش وهو يرى “المسير” الذي أثبت تقريره سوء تسييره يُكافأ بالترقية؟
أليس في ذلك إفراغ لرقابة المحكمة من مضمونها وإضعاف لهيبتها كمؤسسة دستورية يفترض أن تكون حصناً للمال العام؟